مرحبا بكم في مكتبة القصص , نقدم لكم اليوم قصة حب تحت عنوان ” قصة صاحب مطعم بجانب الطريق , قصة واقعية – قصص رعب
قصة جميلة جدا ستعجبك حقأً
منذ أن عمل في الإدارة، وهو لم يعد يعرف من طرق المدينة غير طريق واحد؛ هو ذلك الذي يربط بين بيته والبناية التي يوجد في أحد مكاتبها التي تتالى في ممراتها؛ المكتب الذي يجلس خلفه، وهو قد اعتاد على ما يحتله من ملفات من الورق؛ موضوعة إلى يساره بترتيب وبعناية، وحاسوب إلى يمينه، وإذا ما سلك طريقا آخر، فهو إما لتعذر المرور من طريقه المعتاد، أو لحاجة هو أو أحد أفراد أسرته في أمَسِّها؛ في يوم من أيام عطلة نهاية الأسبوع، إلى أن كان ذلك اليوم الذي تذكر في إحدى ساعات ليله المتأخرة؛ أياما مضت كان حرا فيها، في بُروحِه لبيت الأبوين، والتمشِّي في أي طريق، وفي اتجاه أي مكان، والعودة إلى حجرته، وحسبه أنه طاف دنيا شارع المتاجر والمقاهي، وشارع تحف به أشجار بفروع مورقة، وأرصفة مُعشوشبة، وسار في شاطئ صخري أو رملي يخلو إلا من القليل من الناس وقت غروب الشمس، فتاقت نفسه إلى الخروج من منزله في وقت مبكر؛ لا لدافع؛ إلا لأنه أحب أن يقوم بذلك وبحرية، والسفر في طريق، وليس أي طريق، فهو ذلك الذي يمتد أو يكاد بموازاة مع شاطئ البحر، فينتعش من يمشي فيه ببرودة نسيم البحر…
إلا أن فرقا كان بين أيام خلت كان يتنقل فيها راجلا، وبين الآن فهو يركب سيارته الجديدة، التي أتاحت له المضي لمسافات طويلة، وإلى أي مكان يُعجِبُه، ولم يكن يدري من قبل أن سلوك طريق واحد قد لا يُتيح لك الالتقاء بوجوه أُناس كثيرة، منها ما كنت على معرفة قديمة بها، وسلوك طريق آخر أو طريقين؛ قد يمكنك الالتقاء بأشخاص، وإن غيرت سنوات العُمُر من ملامح وجوهها، وأحالت سواد شعر الرأس واللحية الفاحم إلى بياض شيب، إلا أن علامات ظلت على حالها تُعرّفُك إليهم…
فما هو ذلك المكان الذي أتاح خروجه في ذلك اليوم على غير عادته الوصول إليه، ومن هو ذلك الشخص الذي تعرف إليه بعد مضي أربعين سنة؟
سواء كنت تريد أن تتعجل القيادة في ذلك الطريق الشاطئي، أو تتمهل سياقة مركبتك فيه، فإن علامات تحديد السرعة تتراوح بك ما بين الأربعين والستين والثمانين، فكان هذا يُناسب مزاجه في صباح ذلك اليوم، فليس هناك ما يستعجله، كما عودته واجبات العمل وواجبات البيت، فكان يقود سيارته متمتعا بانسيابها به على طريق ذات إسفلت أسود ناعم، لا يُسمع لآحتكاك العجلات به صوت؛ إلا في بعض أجزاء منه تآكلت بفعل ما، وبالإستماع إلى موسيقى هادئة تصدح من مذياع السيارة،
وإلى موج البحر الزاحف على الصخور وعلى الرمال، وبالنظر من حين لآخر إلى ما يظهر على جانبي الطريق من أراض مزروعة، أو بساتين عامرة بالأشجار المثمرة، أو بيوت كبيرة، وفيلات جميلة البناء بناها ميسورو الحال، وهو يَهبُ نفسه لطبيعة الطريق عن طيب خاطر، ويرتمي في أحضان ذلك الجو الذي تُضِيئُه إشراقة الشمس، وما تزال حرارته معتدلة؛ إذ شد نظره وجذبه بناء بجانب الطريق؛ فُتحت أبواب ونوافذ له من كل جانب، وشُرِّعت دفاتُها أمام طقس الساعات ما قبل الثانية عشرة الرطب، ومن الطواجن البلدية الموضوعة في خط مستقيم على مـِجْمر قصديري مستطيل؛ يرتفع منها بخار ما يُغلي فيها من مرق،
وما يُطهى فيها من خضر ولحوم؛ فعرف أنه مطعم، وفي الجانب الآخر من الطريق موقف يتسع لأربع سيارات لا أكثر، وما بعدها تنخفض الأرض وتتسع لموائد بلاستيكية ومظلات تقي من يجلس يتناول مما نضج في طاجين من ذلك المطعم؛ من حرارة شمس شهر يونيو، ويُمتع بصره بتلال من رمال الشاطئ؛ تبدو هنالك بعيدا، وبما بعدها حيث تمتد مياه البحر إلى الأفق…
فما أمتع الجلوس في هذا المطعم المنعزل والبعيد عن ضوضاء المدينة وصخبها، وما ألذ ما في طبق يُتناوَل على موائده المستديرة والمستطيلة! ولم يكن يقطع سكون المكان وهدوء الحركة داخل المطعم إلا صوت مرور سيارة أو شاحنة، فخفَّض السرعة وأدار المقود جهة اليمين، وترك سيارته تجد مكان وقوفها،
وترجل مُستكشفا بالتدريج وبتآلف واجهة المطعم، وعمال هذا الأخير الذين لم يكن يتعدى عددهم ستة، وطالت قامة أحد بينهم؛ ما إن خطا قاطعا الطريق حتى ألقى عليه نظرة حادة مرحبا به ومُخيِّرا إياه بين أن يجلس بين جدران المطعم، أو في الحديقة الخلفية الواسعة، والمفتوحة على سماء صافية زرقاء، فعرف أنه صاحب المطعم، ونادى هذا آمرا من ينظف المائدة، ويعدل من ساق المظلة؛ بحيث تُلقي هذه الأخيرة بظلها على أكبر مساحة من مكان الجلوس،
فشكره وجلس باحترام وتقدير للحفاوة، وطفق يدير رأسه إلى جانبيه وإلى الخلف؛ ليمنح لعينيه فرصة مشاهدة قفص باتساع حجرة صغيرة، وبعُلوّ يتعدَّى قامة رجل طويل؛ يسكنه زوجان من طائر الطاووس ودجاج ودِيَكة، وفي ركن بعيد على يمينه كلب مربوط قريب من مسكنه الخشبي ذي السطح الهرمي؛ ينبح بين الفينة وأخرى؛ ناصبا أذنيه الطويلتين، ومتصفحا بنظرات حارسة وجوه القادمين.
عاد ناظرا أمامه، فرأى مالك المطعم يقصده مُبتسما، فبادله بالمثل، وقال:
– مرحبا بك مرة أخرى؛ أي نوع من الأطباق تشتهيه في هذا اليوم، وفي محلنا هذا الذي أرجو أن ينال رضاكم؟
أجاب وهو يحاول أن لا يظهر من أنه لم يتعود الجلوس في المقاهي والمطاعم:
– في الحقيقة ما أمتع الجلوس في مطعمكم… أريد طاجينا باللحم…
ولم يزد حرفا واحدا من طلبه هذا، وظل يحدق في عيني صاحب المطعم مدة وحدات من الدقائق، ويجول بعينيه في صفحة وجهه، ويدقق النظر في ملامحه، وقد استرجع صورة من الماضي البعيد؛ لم تُفارق مخيلته قط، كما لم يتركه نفس السؤال عن الذي وقع حينذاك؛ يُعيده في ذهنه منذ ذلك التاريخ، ولا يمكن أن يجد له جوابا…
فحاول مرة ثانية استحضار وجه ذلك الشاب الذي كان يركب عربة خفيفة من عجلتين، ويمسك بالأعِنّة؛ حاثا الحصان على الركض بالسوط الطويل، ليجري بالعربة الحديدية بأقصى سرعته، ويجلس بجانبه على المقعد الجلدي الطويل شاب آخر في مثل سنه، وإن نسي أشياء، فلن يغيب عن ذاكرته خوف مريع ينبعث من عيونهما، وتأهّبهما الظاهر إلى فعل خطر، وكان قد التفت الشاب المرافق إلى الوراء مرة واحدة؛ ليرى ما إذا كان أحد يتعقبهما، وغابا؛ لا يسلكان مِسربا ممهدا أو طريقا، وإنما قاطعين بلا هوادة الأراضي المحصودة والحقول المزروعة…
كان قد مر به هذان الراكبان للعربة السريعة، وهو واقف خلف السياج الشائك؛ المحيط بالإستغلالية الفلاحية التي كان أبوه يحرسها، وكانت في ملك أحد الموسرين اليهود، كان سنه آنذاك أربعة عشر عاما، وكان قد صنع من القصب النابت في جانب من البستان مزمارا بتشكيله بسكين قديم ذي مِقبض من العظام، وينفخ في أنبوبه مُزمِّرا بانتشاء تحت ظلال أشجار وارفة الأغصان والأوراق، في حر شهر يونيو.
ولم يخلف ذلك الحوذي وصاحبه وراءهما غير صوت تكسير الأغصان اليابسة؛ سرعان ما توقف، وعَجَاجة من التراب أثارته العجلتان المعبئتان بالهواء المضغوط والسريعتان، ولم تمر خمس دقائق حتى ظهر رجلان يكبران سنا عن الشابين؛ يمتطيان دراجة نارية، ولم تجد عجلتا هذه الأخيرة أرضا ممهدة لتستقيم قيادتُها؛ للذي يُمسك بالمقود، فكان هذا غير ثابت في يديه، فكان سيرها متعثرا، وكان تعجلهما هستيريا؛ لم يُجْد نفعا، فتوقفا وسألاه:
– هل مر من هنا شابان يقودان عربة؟
ولم يكن على معرفة حتى ذلك الوقت بخطورة ما يجري، فأجاب بتلقائية وبسذاجة الغير المدرك للأمور:
– نعم… مرا منذ قليل
وسأل أحدهما قائلا:
– في أي اتجاه ذهبا؟
أجاب بإشارة من يده إلى الاتجاه الذي اختفيا فيه الشابان، وإن حاول راكبا الدراجتين اللحاق بسرعة، إلا أن محدبات ومطبات الأراضي المحصودة والمزروعة حالت دون انطلاق الدراجة بهما كما ينبغي، وظلا يجاهدان حجارة وحصا وحفر التربة المحروثة؛ بقليل من النجاح.
ولم يُخف القابض بمقود الدراجة حقيقة ما يحدث، فقال له:
– إننا نطارد هذين الشابين، لأنهما اقتحما على أحد مُلاّك الضيعات القريبة من هنا بيته، وسطوا على مبلغ كبير من ماله، وقتلاه، وهربا راكبين عربته، ويكونا بهذا سارقين للحصان أيضا.
وجرى آيِبا إلى الداخل؛ باحثا عن أبيه؛ وجده بين فروع عروش كروم يُقلِّم فروعها، فأخبره، فتوقفت يدا الوالد عن العمل، وظل الـمُقلّم متعطلا، ونظرت عينا الكهل برزانة إلى إبنه، والذي تفوه به وبصوت هادئ هو:
– لا تعود مرة أخرى إلى الحديث في هذا الأمر، ولا تُخبر به أحدا؛ إننا لسنا في مأمن في هذه الناحية الخطرة.
فأُلجِم لسانه، وتراجع وقد أدرك ووعى بخطورة ما شاهد وما سمع.
كان هذا قد حدث منذ أربعين سنة، ولم يخطء، فصاحب المطعم وهو الآن شيخ، هو ذلك الشاب القوي البنية، والمجيد في إرسال لجام فرس العربة عاليا؛ هامزا الدابة…
وقال بينه وبين نفسه، وهو ما يزال يسترق النظر إلى صاحب المطعم؛ كلما ظهر يتردد بين أركان مطعمه والمطبخ؛ مُلبِّيا طلبات الزوار من حين لآخر »… ونفّذت أمر والدي، فلم يغرِني لساني بلذة الثرثرة في ذلك الموضوع، الذي لم تكن تُحمد عقباه في ذلك الزمن على الأقل«.
وهذا أحد السارقين الهاربين ما يزال حيا يُرزق، ويُدير مطعما فخما في ملكه، ويخطر في مشيته آمرا في رقيقه؛ وزاجرا وناهيا إياهم، ولا يُهمل له قرار يتخذه في الحين، ولا يتقاعس عنه أحد ممن يخدمون المطعم… اِجتاح هذا الكلام خاطره، واحتوت عيناه الـجُدُر والسقوف والأرض الرحبة، وآب متحدثا في داخله »أ هذا من ربح استثمار ذلك المال المسروق… مال ضيعة المقتول؟«.
وقد مر على ذلك الحادث أربعة عقود، فماذا تتالى عنها من الأمور؟ هل طُوِي ملف البحث عن الفاعل وإلى الأبد منذ ذلك الوقت؟ وهب أنه عرف بأن هذا الذي يجلس بين موائد الحديقة الخلفية؛ ينتظر أكله من أحد طواجين مطبخه تَذكّره، ولم تغب صورته عن ذاكرته قط، فهي ظلت حاضرة في مُخيلته وتأبى أن تتركه، وإن كان يحاول أن يمحوها؛ إلا أن الذاكرة لا أطوار في عمرها، ولا تشيخ ولا تموت، وأن النسيان لا ينال من أي مما وقع في ماض حياة الإنسان، لو حاكمت الذاكرة الناس على أفعالها المنكرة لفني العالم… فماذا سيفعل؟
إذا ما بُحِث عنه آنذاك، وأُلقي عليه القبض، وحُوكم عليه، ونُفّذ الحكم فيه؛ فهو قد نال جزاءه، أما إذا كان ما يزال صاحب المطعم هذا هاربا من العدالة، فهو القاصد لهذا المطعم النائي للإسترخاء وللإستجمام؛ قد فتح ملف قضية سطو وقتل؛ ظل منذ عشرات السنين مُهملا في دهاليز المجهول.
وقُدّم إليه الطاجين على المائدة، ورُفِع غطاؤُه القمعي، وارتفع بخار الطهي، وفاحت به روائح لذيذة؛ تُحرّك شهية معدة جاعت وأضناها أكل البيت ومطاعم المدينة اليومي والروتيني. لكن هل ما يزال يتوق إليه بعد الذي استحضره من الماضي المخيف، والطاجين من صَنْعة مطعم هذا الرجل؛ المتعدي على أملاك الناس؟ وما إن تناول منه ثلاث لقمات حتى عافت نفسه وأرادت الانصراف عنه، إلا أنه تابع الأكل مُكرها، حتى لا يُلاحظ عنه ذلك صاحب المطعم، فيُصبِح محط ريب، فأكل حتى لم يَفضُل في الصحن الطيني إلا بعض العظام؛ أُستُعصِي عصبُها ونُتف لحمها، فلم تنال منها القواطع، وقطعا من البطاطس والجزر، ولم تغب عينا مالك المطعم عن الآكلين، فهو يسعى إلى الاطلاع على العلامات التي تُؤدي إليها الطواجن؛ هل هي إعجاب ورضى أم شيئا آخر غير هذا؟ وقد رأى أنه قد انتهى من الأكل، فقَدِم إليه مُبتسما كعادته، وما دام الجالس الوحيد، وبدون صُحبة فقد جلس صاحب المطعم على الكرسي الشاغر، وسأل يريد الرأي في الأكل:
– بالصحة والعافية… ما رأيك في طريقة صنعنا لِأُكلة الطاجين؟
حاول أن يُخفي الآثار التي يمكن أن يتركها تَوصُّله إلى معرفة هذا الشخص على وجهه، ومداراته بابتسامات مصطنعة، وبالتفاتاته في الصحن، وفي وجهه هو، لكن غلبه الفضول الذي قد يؤدي إلى رد فعل خطر، وظل يحدق في وجهه ويتحقق من العلامات الباقية من شباب ذلك العهد، وهو يقول:
– ما أراه في الطاجين ليس مجاملة لك أو مُداهنة، فهو بحق لذيذ، وقد نجحت الأيدي التي صنعته في ذلك، وبالطبع هذا هو الهدف لجذب المزيد من الزوار والزبناء.
وكان صاحب المطعم وهو الذي امتد به العمر، وله خبرة في سبر أغوار نفسية الناس؛ قد لاحظ التفرس الطويل في وجهه، ولم يفطن وقتها بما وراءه ونطق باطمئنان إلى رواج طواجنه على جميع الموائد تقريبا؛ قائلا:
– لم أدرس فن الطبخ، ولم أتعلمه من طباخ معلم، فالذي فكرت في العمل فيه هو أنني عندما هاجرت إلى إيطاليا، وعملت هناك مساعدا في عدة مهن وحرف مدة ثلاثين عاما، ولما عدت لم أجد من الشغل المناسب، والذي يضمن مدخولا قارا إلى حد ما هو فتح مطعم، واخترت له هذا المكان لوجوده بجانب الطريق الساحلي، ليقصده السائقون المهنيون، والمسافرون في أيام عطلات نهاية الأسبوع، أو عطلات فصل الصيف السنوية.
لم يُضف عن سيرته العملية هذه المقتضبة أو الموجزة كلاما آخر، وكان ينظر في عين الذي أمامه، وطال تمليه لملامحه وقراءة ما في داخله، وما يُمليه عليه عقله؛ إذ كان قد لاحظ كيف انبتت عينا المتغذي على الطاجين فيه، ولم تَمِل إلى أي جهة، ولم تَرمش جفونه إلا مرة واحدة، فغزا صاحب المطعم شك آسر، وقام من جلوسه وقد تغيرت سِحْنته، وتحول ولأول مرة من رجل ذي ثقة في النفس؛ لا يُطأطأ الرأس استخذاء ولا ينهزم، ولا يخاف من أي أحد؛ إلى آخر زُعزِع في وجوده، وسار ولم يلتفت، فقد أدرك أن هذا الذي لم يعتد الجلوس في المطاعم والمقاهي، ولم يألف الذهاب إلى الأماكن البعيدة والمعزولة؛ يعرف حكاية من حياته، والحكاية المثيرة والمخيفة كان حدثها قد مر في سنون الشباب، وفي حيوية وخفة هذا الأخير، وطيشه واندفاعه الغير المحكم ومغامراته الغير المخطط لها، والمؤدية إلى الهاوية؛ هي المرافقة للسطو والقتل؛ هذا الأخير كان يجهل فنه آنذاك وكيفية الإقدام عليه.
وعاد إلى عمله دون أن يُلقي أي نظرة إلى الوراء، فقد كان أدرى بقراءة العلامات المرتسمة على ملامح ذلك الذي يجلس إلى إحدى موائد محله، ولم يكن شكلها الغريب إلا تعبيرا عن السر المخفي، وآثار إحساسه هو الرهيب؛ طفت على الوجه.
لم يعد إذن ليكون للطاجين طعم، ولم يرُق لصاحبِنا أن يستطيبه أو يستمرئه؛ لصورة الماضي المريعة الـمُستحْضرة، ولم يطب له الجلوس أطول مدة، وفارقته رغبة الاستمتاع، أو الميل إلى هدوء هذا المكان، فقام على رِجلين مرتجفتين وتائهتين، وخزر في الناس المنكبة بلذة، وفي مداخل بناية المطعم، وخطا وهو يرجو أن لا تتبعه عينا ذلك الرجل المتقهقر إلى الماضي الذي يكاد أن يضرب في جريمة البشر الأولى، وظهر أحد المستخدمين؛ ناظرا إليه بعينين قلقتين ومتحفزتين؛ قهرهما أمر صادر عن مالك المطعم، فأدرك أنه مبعوث به لأخذ نقود مقابل الطاجين، فأفرغ هو في يديه ما كان في جيبه معدودا لذلك، وقطعت قدماه المسافة التي كانت تفصله عن سيارته، وما إن أدار المفتاح، وتناغمت عناصر المحرك الميكانيكية؛
حتى كان يجاري انعراجات طريق الرجوع، وحتى لا يُخطئ أو يَغفل أو يُهمِل ما يسبب في وقوع زيغ عن خط السير، أو اصطدام أو انقلاب مميت، وحتى ينسجم مع حركة التجاوز، أو إعطاء فسحة أو مُهلة للذي يتجاوزه، فإنه كان ينظر مرة بعد مرة في المرآة الداخلية، والذي لفت انتباهه في إحدى المرات ظهور سيارة مرسيديس سوداء اللون؛ في إطار المرآة المستطيل؛ حافظ سائقها على مسافة معينة تفصل بينهما، وسبق أن شاهد جزءا من مؤخرة هذا الموديل يظهر من مدخل مَرْأَب يُحاذي المطعم الذي تناول فيه طعامه، وغادره منذ عشر دقائق. هل هذه السيارة تتبعه؟ هل سائقها يمشي خلفه؟ وإذا ما استمر في متابعة عودته، فسيتعرف الـمُقتفي للأثر على الحي الذي يسكن في أحد منازله، فما إن ظهر له من بعيد طريق في الجانب الأيمن؛ يؤدي إلى أحد شطآن الاصطياف حتى انعطف إليه وخفّض السرعة، وألقى نظرة خاطفة إلى الوراء؛ إلى السائق الذي يقود الميرسيديس، والذي لم يكن في باله أن السيارة التي كان يتبعها ستنعطف،
كان يرتدي نظارة حوَّل شكلُها هيئة رأسه إلى شخص غير معروف، ولم يعرف أنه صاحب المطعم إلا من شعره الأشيب، ومن ياقة قميصه العريضة والزرقاء اللون، إذن فهو يتعقبه، فتابع السير في ذلك الاتجاه بسيارته، وهو يقرأ في لوحة إرشادية إسم (مقهى الرمال الذهبية)، ثم ركَّن السيارة في صف من السيارات وصعد دَرَجا، وجلس على أحد كراسي مائدة المقهى ناظرا إلى البحر، فالحل الذي توصل إليه وأملاه الظرف الآني هو يكفي أن يظل هنا جالسا يفكر في الكيفية التي ينفلت بها من الطريق الساحلي، ويؤوب إلى بيته كما غادره؛ لا يعرفه أي أحد،
من أن يتابع طريقه فيهتدي هذا الذي يتبعه إلى حي سكناه، وهو ما يزال يستجمع تفكيره، ويتغلب على خوفه ويلم بما يحدث الآن؛ إذ طرق أذنيه هدير محرك (الميرسيديس)، والتفت ليرى تقدم مقدمتها خلف سياج المقهى النباتي وتوقفها، وظهور مالك المطعم يرتقي الدرجات قاصدا إياه؛ تاركا جسده الممتلئ يستقر على كرسي، وقال بعصبية، ووجنتاه اللتان تكادان تذوبان بالشيخوخة ترتجفان:
– لا تماريني، فإنك تعرف حكايتي، وإني أقول كلاما عليك أن تصدقه، وقد مرت أكثر من ثلاثين سنة على ذلك الفعل؛ أنني لم أقتله؛ نعم لم أقتله، فالذي رافقته للسرقة هو الذي أجهز بضربة على رأسه بقضيب من حديد، لأنه أراد مقاومتنا؛ بأن وجه بندقية صيد إلى جسدينا، وكان يظهر من عينيه أنه كان يحاول بكل ما يتسلح به أو بكل جهد قوته في انقاذ حياته وماله.
حار الـمُتعقَّب فيما سيتكلم به، ويدفع عنه اندفاع هذا الرجل الهستيري، الذي بدأ ظهره ينحني بعمره الذي تعدى سبعة عقود؛ ويفكر فيما يمكن أن ينطق به ليُكذّبه؛ بأنه لا علم له بما قام به منذ أعوام مضت، فقال:
– كيف عرفت يا سيدي بأني أعلم بحادثة القتل هذه التي برَّأت نفسك منها؟
رفع الرجل أُصبُعه في وجهه وجسده يرتجف، وقال:
– لا تتجاهل؛ فإني قرأت على وجهك ما تحتفظ به ذاكرتك، وما تُبطِنه نفسك.
رد هو قائلا وقد خاف من بطش الرجل:
– تنحّى عني أيها الرجل… وهبْ أني على علم بما حدث، فما تظن أني فاعل الآن… لا شيء.
برقت عينا الرجل وضحك بانفعال حاد، وقال:
– ستشي بي… ستُبلّغ بي إلى جهاز الأمن ليقبضوا علي.
رد هو محاولا النهوض والانصراف من المكان:
– ولأي هدف؟ أنا لا أُبلّغ بأحد، وكيف أنقل فعلتك إلى إدارة الأمن وقد مرت عليها عدة سنوات، وإن هذا لمن أفعال من لا يقدرون العواقب، ولماذا أزج بنفسي في سرقتك، وفي قتل إنسان أنت تُبرِّئ نفسك منه.
لم يبال لما وعد به نفسه بأنه بعيد كل البعد عن قصته، فقال متوعدا إيّاه:
إنك معروف الآن، وسأترصد لتحركاتك، وإذا ما اشتهت نفسك إلى الاخبار بي سأقتلك.
ثم تذكر شأنا ذا بال؛ كان غائرا في نفسه، فعاد إليه هدوؤه قليلا ما، وقال، وكانت نفسيته المتأثرة بذلك الحال قد ملأت العين بدمع يلمع، وباحمرار حزن دفين:
– كنا؛ أنا وهو والآخرون قد رمينا بأنفسنا إلى أمواج البحر الهائجة، وسبح من كانت له القدرة على مجاهدة الأمواج الضاربة لصخور الشاطئ بقوة قد تُهشّم عظامك. كان قائد القارب يمسك بمقبض المحرك الموجه؛ وهو المهرب للكائنات البشرية إلى سواحل إيطاليا؛ إما هم أحياء أو كثل من لحم تجرفها تيارات البحر الأبيض المتوسط إلى الشواطئ المهجورة، ويصيح فينا بذلك الأمر المريع؛ أنِ اسْبحُوا، فشاطئ النجاة والوصول يظهر من وراء ضباب نسيم الصباح، وسبحت مع السابحين، وناديت عليه فأجابني صاحبي بصوت كليل ومختنق بماء البحر المالح أنه هناك، ولم يرد علي في المرة الثانية،
فعرفت أن موجة عاتية أطبقت عليه، وخرت به إلى أعماق البحر، ولم يقتله فقط الموج المائج، فقد كان الجسد الآدمي لا يتحمل درجة الماء التي انخفضت إلى مستوى التجمد في ذلك الفصل، فقد مات الذي قتل مالك الضيعة غريقا، ونحن نحاول أن نطأ أرض إيطاليا مهاجرين سريين ؛ أرض حلم الثراء؛ كنا نتزود به في مُخيلتنا الجدباء، وفي قلوبنا الظمآنة ، ولم أعلم عن أي خبر عن جثته، بل اختفيت عن العيون الراصدة، وتحاشيت البحث عنه، أو الاستعلام عن ما إذا رمى البحر بجسده، لأني كنت أريد أن أفلت بنفسي من المحققين في جريمة السطو والقتل، وأن أنجو من الغرق.
وفي غمرة هذا الجو المشحون بلقاء مفاجئ بين المشترك في السرقة، وبين من تعرف عليه، وباسترجاع حادثة القتل، وأيام الهجرة عبر البحر العصيبة، والنهاية المؤلمة آنذاك لأحد ذانك الشابين المغامرين والمندفعين بحماس خادع، وبمحاصرة صاحب المطعم الغير المنتظر؛ طرأت عليه فكرة ليُخلي سبيله، فقال:
– أنصت إلي أيها الرجل إلى ما سأقول لك؛ حكم عقلك فيما اعترفت به، فإني لست شاهدا على ما ارتكبته، وليس لدي أي دليل على ذلك. كنت فتى أتسلى تحت ظلال الأشجار بمزمار من قصب؛ لا أعي بما يحدث في الواقع، ومرت عربة بشخصين يتعقبهما آخران؛ يركبان دراجة نارية؛ هذا كل ما أتذكره؛ أ كنت أنت أحد المسرعين بالعربة؟ فإني غير مُتيقّن، وإن حاولت فإني أكون قد زججت بنفسي في أمر لا أعلم بتفاصيله.
نقر مالك المطعم بأصابع يده اليمنى على سطح المائدة بتشجنج، وقال:
– نعم… ليس لك دليل مادي قاطع… نعم…
لقد أنهك رجل مطعم جانب الطريق حِمل فعل إجرامي والعُمُر الطويل، فأدار وجهه جهة البحر، واستنشق بعمق وبيأس هواء مشبعا ببرودة البحر وأعشاب وطحلب هذا الأخير، ثم ترك المكان.
تنفس الصعداء ذلك الموظف العمومي، وذهب عنه الخوف من جدية الموقف، لقد شعر بمدى ثقل الماضي الرهيب على الرجل، فهو قد عاش هذه المدة المديدة بشعور يومي؛ بذنب تزداد حدته مع دنو الأجل، وبعد أن دبت في الجسد أعراض المرض، ثم آوى إلى بيته، ولم ينم إلا ساعات قليلة، ولما استيقظ في اليوم التالي؛ أحس برغبة شديدة في معرفة أول ما حدث، فالذي على علم به الآن هو الجزء الأخير من الحكاية؛ ثم قتل مالك الضيعة، وهروب المهاجمين بمبلغ من المال،
وحتى يختفيان عن المحققين في الجريمة، وتعقُّب المفتشين لهما؛ لا يُعرف لهم مكان يمكن أن يتواجدان فيه، فيُلقى عليهما القبض؛ هاجرا إلى إيطاليا سرا عبر البحر، واستطاع أحدهما السباحة إلى أحد الشطآن وغرق الآخر، بعد أن لم يعد بالإمكان اقتراب قارب الهجرة السرية أكثر؛ لاحتمال وقوعه في قبضة سلطات خفر السواحل البرية والبحرية.
فكيف تسللا إلى الضيعة؟ وكيف اهتديا إلى مكان المال؟ وكيف ضبطهما المالك فاصطدم بهما؟ وفي النهاية ما مآل أملاكه بعد موته؟
فما هو السبيل إلى الإجابة عن هذه الأسئلة؟ ويعود مُراجعا نفسه، فيقول بأن الواقعة لا تعنيه في أي شيء، ويستمر في تَرداد تلك الأسئلة التي تجيب عن محاور الحدث، فيُقرِّر في الأخير أن لا يتراجع، فيُسافر إلى الجهة التي كانت فيها ضيعة صاحبها المقتول، وأن يسأل من ما يزال يتذكر واقعة الفاجعة وأن يتتبع الخطى.
للذهاب إلى هناك عليه أن يقطع مائة كيلومتر، وهذه ليست بمسافة طويلة، وقد يكفي يوم واحد على الأقل ليجد أحدا يتكلم إليه، فيُمسك بالخيط الذي يُفكِّك كُبَّة الحياكة.
وقد سار في الطرق المؤدية إلى هناك، وكانت المفاجأة الكبرى، وهي ذلك الانفجار العمراني؛ كأن الأراضي الـمُغلّة والمسارب التي كانت تربط بينها، والتي جرى فيها حافي القدمين منتشيا بسخونة ترابها المذرور بحوافر الدواب وعجلات العربات؛ قد أينعت هذه العمارات العالية والمكتظة بالسكان، وهذه الفيلات المفروشة أرضيتها بِبُسط معشوشبة مُستنبة، وبسط بعشب اصطناعي؛ كل ما رآه شكلته الأيدي الماهرة، ولا أثر للطبيعة فيه إلا شجيرات عاقرات أو لا لاقح لها؛ لا تُنبِت حلوا ولا حامضا، وهي للزينة فقط، ولم يَفْضُل من ذلك الزمن إلا طريقا قديما تقف له الممهدات الميكانيكية بالمرصاد،
وفي أحد جانبيه دار متهالكة البناء، وآيلة للسقوط، ما يزال يشغل جزءا من واجهتها حانوت حلاق؛ كان أبوه يجره إليه جرا، وهو صغير السن كاره لماكينة قص الشعر المخيفة؛ ليحلق شعر رأسه، وواجهة الدكان لم يتغير فيها أي شيء، قبل أن يدخل إليه نطق بتحية السلام، ولما ردت مجموعة من الرجال بالمثل أطل برأسه نحو الداخل، فرأى رجلا كبيرا في السن جالسا يتحدث؛ على كرسي انتظار الزبناء الطويل والوثير، والحلاق عاكف على جز شعر الجالس على كرسي الحلاقة،
وأطال النظر في وجهه، فعرفه؛ إنه حلاق الطفولة، وإن تقلص الجلد وبدأ ينكمش، وذبلت الشفتان، وبرحت بعض الأسنان الأمامية فمه إلى غير رجعة، وإن ناداه باسمه فلم يلتفت، ورد بأن» نعم «؛ لأنه من المألوف أن يسمع الحلاق تحية السلام؛ سواء من القادم للحلاقة أو المار من أمام حانوته ممن يعرفونه، وأن يسمع اسمه، وألقى عليه الحلاق في الأخير نظرة باردة، ثم عاد وظل يحدق، فتذكر الوجه وقال:
– إني لم أنس صورتك، فأنت ابن حارس ضيعة اليهودي.
أجاب هو بابتسامة المغتبط بلقاء الوجوه الطيبة القديمة:
– نعم؛ ولم آت لأحلق، فإنك الحرفي الوحيد الذي يحتفظ بما مر من أحداث الأفراح وأحزان المصاب، والوقائع المؤلمة في هذه المنطقة، ولا أتذكر أنا غير حادثة القتل التي تعرض لها مالك الغِلل، كانت على ما أذكر غير بعيدة من هنا.
ولم يكد ينهي كلامه حتى تكلم الشيخ الجالس الذي كان صوته يُؤنس الحلاق الصامت والـمُركِّز بانتباه على آلة الحلاقة وصاحب الرأس المحلوق؛ قائلا بحماس:
– مر على تلك الواقعة زمنا طويلا.
قال الحلاق:
– إنها حادثة قتل قديمة، وحسب علمي فإن القاتل ظل مجهولا؛ لم تُوفّق إدارة الأمن في الاهتداء إليه.
قال الشيخ:
– كانت قد روعت جريمة القتل تلك السكان، وغيرت حياتهم من المسرات والطموح إلى أحزان وخوف وإحباط، وعدم الثقة في المهاجرين الغرباء القاصدين للضيع للعمل في مواسم جني ثمار الأرض، وصارت منذ ذلك الوقت حكاية يتناقلها الناس فيما بينهم، ويرويها الكبار للصغار، والآن غدت من الماضي، وزحف العمران، وأعطيت أسماء غريبة على الأذن المحلية للشوارع والأحياء، وسكن البيوت القادمون من بعيد، وانقرضت أجواء الواقعة الدموية التي رانت لثلاثة عقود فقط، كما مات مُتألما من كانت له قربى أو صداقة بالمقتول أو من كان يُجاوِره في السكن.
ولو لم ينطق الحلاق لمضى الشيخ يُطيل في الكلام، ويمتد به التذكر إلى التأسف على ما مضى من حياة جيله، التي لا يذكر منها إلا المفاخر وإنجازات حيوية الشباب، وبطولات الكمال الجسماني؛ إذ قال:
– ولم تنته المأساة عند القتل، فبعد الدفن ونهاية مدة الحزن على المصاب الجلل؛ اجتمع الورثة، فحضر من لم يعُقه أي شيء، وتوكل من بينهم على من كانوا يقيمون خارج البلاد، وعددهم ما فوق العشرين، لأنه لم ينجب إلا ابنة، فكان الأحياء من إخوته وأخواته، وأبناء وحفدة الأموات منهم؛ جميعهم من الوارثين.
قال الشيخ:
– يظهر من كلامك أن حالة الأرملة واليتيمة بعد تصفية التركة لم تكن سارة.
قال الحلاق:
– بالفعل ذلك ما وقع.
ولم يضف الحلاق عن ما تفوه به كلاما آخر؛ حتى لا يُطلع الجالسين في محله عن ما قد يشيع بين الناس، وإن فرّقت المدينة الزاحفة أفراد جماعة الضيع الفلاحية، الذين يكونون راغبين في معرفة نهاية أسرة مالك الضيعة الثري المقتول.
وكان هذا ما فَهِم من الحلاق، وما قاده تحليله إليه، ورغم هذا فإنه تشجع وسأل الحلاق بنبرة استعطافية:
– إن قصة هذين الفردين؛ الأرملة والابنة أثرت في نفسي كثيرا، فما أقسى ظروف الحياة، فلا أستحيي أو أمتنع أو أتردد فأسألك.
قال الحلاق برضى:
– فإني أُجيب إن بالتلميح أو بما يفي بسؤالك بدون مراوغة.
فسأله قائلا:
– أو تعرف أين تُقيم الآن الابنة؟
أجاب الحلاق بدون تردّد:
– … ولما لم ترض البنت بعد مقتل أبيها وتوزيع الإرث بالسكن في المدينة مجهولة؛ لا يعرف أحد ماضي والدها المجيد، الذي كان من كبار مٌلاّك الضيع، وأن تنتهي حياتها في بيت من بيوت المدينة ببؤس وبفقر؛ فإنها اِشترت قطعة أرض تبعد عن عمران المدينة، وبالضبط بعد الانعطاف عند ملتقى الطرق؛ عند الكيلومتر مائتي وعشرة، وبنت عليها بيتا مُتواضعا، وهي تتعيش الآن من فلح الأرض وتربية الدواجن والمواشي والدواب، وتجيد ركوب الخيل كما كان يجيدها والدها، ويراها الناس هناك ممتطية صهوة جوادها في كل صباح؛ هذا ما نقله إلينا بعض ممن يزالون يعرفونها.
ما إن انتهى الحلاق من رواية نهاية القصة الدموية؛ حتى شكره وأنهى زيارته القصيرة لمحل الحلاق بتحية الانصراف، وركب سيارته وقادها بسرعة تطوي المسافة المائتي عشرة كيلومتر.
نظر إلى جهاز تسجيل ما قطعته السيارة من الكيلومترات، فخفّض السرعة وانعطف واستمر في طريق ضيق مُشظِّي الجانب مسافة ثلاثة كيلومترات، فوجد أرضا مسيجة بأشجار؛ تملأها تغاريد العصافير والطيور، وبين أشجار الليمون والبرتقال واللوز ظهر له بيت صغير مطلي باللون الوردي الباهت، ولها باب على جانب الطريق، فقرعه بقوة بحيث يصل صوت الدقات إلى من في السكن الموغل في وسط البستان، فنبحت كلاب بسعار، وظلت تنبح حتى تلقت أمرا ممن سمع الطرق بالسكوت، فُتِحت إحدى دفتي الباب الحديدي، فظهرت امرأة في عقدها الستين؛ مُتشعّثة شعر رأسها الأشيب، ترتدي لباسا طويلا؛ ترفعه عن ركبتيها؛ رابطة أطرافه بخصرها، ويستر سيقانها كُمّا سروال قصيران، وترتدي على جذعها صِدارا صوفيا؛ حيك باليد من خيوط من الصوف، وتحتذي فردتي حذاء ذو رقبة من البلاستيك؛ طالتا حتى قاربتا الركبتين، فلقد كانت المرأة تعمل في العرصة أو في خم الدجاج أو في زريبة الماشية أو في إسطبل الدواب.
حياها فردت على تحيته، وتساءلت بملامح وجهها قبل أن يتحرك لسانها، تستفسر قائلة:
– نعم… أ عندي غرض أقضيه لك؟
قال؛ حتى لا تصرفه عنها، لأنها كانت حازمة للعمل:
– ليس لي أي حاجة عندك سيدتي؛ ما أريد قوله هو أنني سبق وأن رأيت السارقين لمال والدك يرحمه الله، وكان القاتل أحدهما.
خففت قبضة يدها اليمنى عن مقبض الباب، وتقدمت خطوة خارجة، وظلت تحدق في وجه هذا القادم الغريب الذي هو على علم بالقصة الدرامية كاملة، وقالت مقطبة الحاجبين:
– أو أنت تتكلم بصدق؟
قال بثقة:
– نعم؛ ولماذا أقطع مسافة ثلاثمائة كيلومتر لآتي إلى هنا؟
قالت باستنكار وبشجاعة:
– قد تكون نصابا، كما نصب علي ذلك الذي أغراني واستمالني بحب كاذب، واستحوذ على ما ورثته من مال، فطلقته.
قال بصوت خافت لم تسمعه بوضوح:
– هذا فصل آخر من المأساة.
قالت وهي ما تزال تجيل ببصرها في هيئته:
– نعم… ماذا تقول؟
قال:
– سأحكي عليك ما يُثبِت صدقي.
فروى لها عن مرور الشابين سريعا بالعربة، وهو واقف بجانب سياج الأشجار يتلهى لهو سن الصغر؛ بمزمار من قصب، وزاد فقال:
– تعرفين يا سيدتي ما تركه هذا من خوف ورهبة في نفسي آنذاك، وظلت الصورة ماثلة في ذاكرتي، والحادثة لا تُنسى.
صدقته فدعته إلى الدخول، وأوصدت الباب، وقادته إلى مكان أغصان كروم العنب؛ فيه كراس ومائدة من قصب، ثم أشارت إليه بالجلوس على أحد الكراسي، وجلست هي على آخر باسترخاء لأخذ نفس عن ما سمعته، وطفح وجهها بالدم، واغرورقت عيناها بالدموع، وتنهدت بعمق، ثم أجهشت في البكاء، وقالت بصراحة الأسيف:
– أًعِد علي ما رأيت في ذلك اليوم المشؤوم.
فأعاد على مسامعها ما شاهد؛ في هذه المرة كان يتكلم بالتفاصيل وبإحكام؛ كانت هي تُنصِت باهتمام وتتأمله؛ كان قد بدا لها صبيا من ذلك العهد، وقرأت في عينيه وفي ملامحه كلامه الصادق. كان هو قد وعد نفسه بأن لا يُطلعها على السارق الباقي على قيد الحياة، حتى يحين الوقت لذلك، وعلى مصرع الثاني وهو القاتل غرقا في مياه البحر.
قالت بيأس وبواقعية وهي تُكفكف دموعها:
– ما الفائدة الآن من كل هذا؟ فقد مر على الحادثة مدة زمنية طويلة؛ لم يُعرف لحد الآن مكانا لهما، وقد أتت السنوات على أعمار الناس، فرحل من رحل، وينتظر من ما يزال من المسنين القدر المحتوم، ولا أحسب إلا أن القتلة يموتون دقيقة دقيقة بتأنيب الضمير، وهم الآن إلا اصطناعا للمظاهر.
واستطردت قائلة بحنان:
– لن تبرحني الآن، فإني أحسست بأنك عشت طول عمرك تتذكر ذلك اليوم الدامي مثل ما عِشناه، وما يزال مشهد والدي وهو ملقى على الأرض، ورأسه مشجوج ينزف سيولا من دمائه؛ لا يفارق مخيلتي.
وقامت من جلوسها، ثم غابت في ممر بين أغصان الأشجار وأُصص نباتات وأزهار الظل، وبعد وقت قصير عادت حاملة صينية عليها براد تقليدي الشكل؛ من تركات الماضي الزاهر، فقدمت له كوب شاي ساخن.
بعد أن رشف الشاي المنعنع عدة رشفات، سألها:
– والوالدة؟
قالت خافضة النظرات وبتنهيدة:
– توفيت بعد عمر طافح بالأحزان.
قال:
– الله يرحمها
قالت له بعطف:
– أعِدني أن تزورني من حين لآخر، فإن زياراتك تُرفّه عني وتُنسيني مأساة الماضي.
وعدها، وأكمل شرب كوبه، وانصرف يريد الرجوع إلى بيته، بعد أن شيعته إلى الباب، يشملهما معا نباح الكلاب المسترسِل، ولوحت له بابتسامة وبدموع فرح جديد هلّ عليها في ذلك اليوم.
وقد وفى بوعده، فكان يتردد على بيت ابنة الثري المقتول؛ كلما سنح له الوقت، وفي أيام عطلات نهاية الأسبوع، واطمأنت هي إليه، واستأنست به في وحدتها، ومالت إليه بعاطفة الأخوة؛ ذلك أنها لم ترزق بأخ، وظلت محرومة بإحساس بوجوده، كما فقدت حنان الأبوة بفقد والدها، وحنان الأم بفقد هذه.
وكاد أن ينسى تهديد مالك المطعم له، وكأنه أدرك بحسه أنه بدأ يشيخ، وانهار جسده بأثقال واقع الحياة، وتحت تأثير نداء العقل، ولومه لنفسه. لم يكن يتصور هو أو يطرأ على باله أنه سيحيى نهاية القصة، فماذا جرى؟
كان في ذلك اليوم في إحدى زياراته لآبنة الفلاح الثري المقتول، فكان قد غادر الطريق الرئيس بسيارته؛ بعد أن قطع مسافة الكيلومترات المعتادة، وانعطف إلى يمينه ليسير في الطريق الثانوي الضيق مسافة الثلاث الكيلومترات ليصل إلى بيتها، ولم يفطن إلى وجود سيارة كانت متوقفة عند ملتقى الطريقين، الذي غالبا ما يكون خاليا بوجوده في امتداد الأراضي الزراعية الشاسعة، ولم يفطن إلى وجودها أول الأمر، فما إن انعطف حتى رآها في مرآة سيارته الداخلية، وسائقها يحاول اللحاق به، فشعر بخطر يتهدده، فأسرع بالسيارة، ولم يستطع الإفلات، فتجاوزته السيارة التي تتبعه وسدت دونه الطريق، وحاول أن يُراوِغ إلا أن السيارة زاغت به عن الطريق، وإن كبح دوران العجلات السريع، إلا أن هذه وبتأثير قوة الاندفاع اِنزلقت ساحقة حجارة وتراب جانب الطريق، وغاصت به مقدمة السيارة في قناة تصريف المياه التي تفيض في فصل الشتاء؛ غير عميقة، والتفت بخوف، فرأى شخصين يهبطان من السيارة الغريبة ويتوجهان إليه، تعرف على أحدهما؛ إنه صاحب المطعم، كان يتحرك ببطء؛ بجسده الممتلئ والمترهل، والرجل المصاحب له اِنهال على الزجاج الأمامي للسيارة تكسيرا، فاستطاعت يده أن تمتد إلى المفتاح الداخلي ويفتح باب السيارة، ويُحكم بقبضة قوية بياقة قميصه ويُخرجه بقوة مُدحرِجا إياه، ورأى مالك المطعم يرفع قضيبا ثقيلا من حديد عاليا ليضرب به على رأسه؛ إلا أنه مال بجذعه جانبا، فتفادى ضربة قاتلة، وبقوة حركة الساعدين ضرب القضيب الأرض، وكان صاحب المطعم سيحاول للمرة الثانية، إلا أن صوت بندقية دوى في المكان، وتردد صداه بعيدا، فالتفت الرجل المرافق إلى مصدر الصوت الحاد، فرأى كائنا مُلثّما يصوب ماسورة بندقية إليهما، فركب السيارة وقادها هاربا، واستطاع هو النهوض ليشاهد ذلك الملفّع باللثام يضرب بمدراة صاحب المطعم من الخلف؛ على كتفه العريض، فسقط منبطحا على الأرض، وزاد عن ذلك بأن نزل برؤوس المدراة على عنقه، وصاح عليه متوعدا إياه:
– لا تتحرك أيها السافل، وإلا غرزت المدراة في أوداج و وأوردة ونحر عنقك.
والذي هُرع إلى المكان هما راعيان كانا يرعيان شياهما قريبا من ساحة المعركة، وقد تابعا باستغراب وجزع السباق الجنوني بين السيارتين، والهجوم على أحد لقتله، وأول ما قاما به هو إبعاد الملثم وإزالة سلاح المدراة من بين يديه، وبُهِتا لما عرفا من يكون بعد أن جلس على ركبتيه لاهثا وأزال اللثام، إنه ابنة مالك الضيع المقتول، فأشارت إليهما بأن يُوثِّقا يدي هذا المنكفئ على الأرض، وتسليمه لرجال الأمن، إنه أحد الاثنين؛ الذي قتل أحدهما والدها.
وسارت بثبات ووقفت أمامه ترنو إليه بهم وقالت له:
– وإن لم تخبرني بأنك صادفت أحدهما، فإني عرفت ذلك بحدسي الذي لا يخونني، قرأته في عينيك، وانتبهت إلى أن راكبي سيارة كانا يراقبانك، ومرا كم من مرة من هنا؛ يتحينان فرصة الانقضاض عليك، فقررت أن أحميك منهما، وإن تطلب مني ذلك الكثير.
واستطردت بيقين:
– إنه كان يريد أن يرتاح من سياط الضمير، فجاء يُقاتل بيأس، وقد امتد به العمر، والجزاء على فعل غير أخلاقي يُريح النفس الـمُتعدّية.
وركب معها سيارتها الرونو 4 القديمة، متوجهة به إلى بيتها الريفي؛ لتضمد جروحه، تفوح روائح زروع الصيف والغلة والبهائم من مركبتها المنخورة الهيكل بالصدأ، والتي تنقلت بها مُتأهبة للمعركة التي خططت لها، وحاولت أن تنتصر فيها، ذائدة عن هذا الذي قصدها يوما متأثرا بحادث شهده وسمع عنه وهو صغير السن، وكان له كبير الأثر في حياته.